العار شعورٌ مُعقدّ، عميق، ومتعدد الأوجه، وله آثارٌ بالغة على الصحة النفسية والجسدية والعلاقات الشخصية. وغالباً ما يُوصف بأنه شعورٌ مؤلم يتميّز بالدونية والضيق، وينشأ عن إدراك الفرد لسلوكٍ خاطئ أو أحمق. وعلى الرغم من أن العار يُنظر إليه عادةً على أنه شعور سلبي، إلا أنه قد يؤدي أحياناً وظيفة تكيفية، إذ يعمل كمن ظّم اجتماعي يشُجع الأفراد على الالتزام بالقيم والمعايير المجتمعية، إلا أنه عندما يصبح مزمنًا أو متفشيًا، يتحوّل إلى قوة غير تكيفية تؤدي إلى تصوّر سلبي للذات وضيقٍ عاطفي عميق.
وعلى عكس الشعور بالذنب، الذي يرتبط عادةً بالتصور الداخلي وقيم الشخص ومبادئه ، فإن العار يرتبط بالتصور الخارجي للفرد والقيم المجتمعية التي توازن بين احتياجات الفرد وأهدافه من ناحية أخرى. لذلك من الضروري فهم الفرق بين الذنب والعار: فشعور الذنب يتمحور حول الأفعال المحددة التي يفعلها الشخص ومشاعر الندم المرتبطة بقيم الشخص مثل ” أنا أخطاءت وأشعر بالذنب لقيامي بذلك” بينما يتصل العار بالقيم المجتمعية والتصور الخارجي للشخص كليّا والمبني على التصورات المجتمعية مثل ” أنا شخص سيء لقيامي بكذا وكذا” أو ” أنا غير كفؤ” . ويؤثر هذا التمييز على كيفية استجابة الأفراد لإنفعالاتهم؛ إذ يمكن أن يدفع الذنب إلى سلوكيات إصلاحية، في حين يدفع العار غالباً إلى الانسحاب أو العدوان. تستعرض هذه المقالة الأسس النفسية للعار، وآثاره على الفرد، ودوره في الصحة النفسية.
تشير عالمة النفس جون تانغني إلى أن العار يتمحور حول التركيز على الذات، حيث يرى الأفراد أنفسهم معيبين أو غير أكفاء. وقد ينشأ هذا التقييم السلبي من مصادر متعددة، مثل المعايير الثقافية، والتوقعات العائلية، أو التجارب الشخصية (تانغني ،1996)
| ” تانغني : عندما نشعر بالعار، نشعر بالسوء تجاه أنفسنا. نحن نعاني من عيب جوهري لأننا فعلنا شيئاً ما. هذ ا ينعكس على هويتنا كأشخاص. أنا شخص سيء لقيامي بذلك. أم الشعور بالذنب، فيرُكز على سلوك منفصل نوعًا ما عن الذات. قد تكو ن شخصًا جيدًا، لكن ك تفعل شيئ اً سيئاً. ولذلك، عندما يشعر الناس بالذنب، فإنهم عادةً ما يشعرون بالسوء تجاه شيء فعلوه، شيء مُحدد، أو شيء لم يفعلوه وكان ينبغي عليهم فعله. “ |
كما ميّزت لويس (1971) بين نوعين من العار :العار الأولي، وهو استجابة فطرية للرفض الاجتماعي المُتصوَّر، والعار الثانوي، الذي ينشأ من التأمل الذاتي واستيعاب القيم والمعايير الاجتماعية. ويعُد هذا التمييز أساسياً لأنه يبُرز كيف ينتقل العار من كونه حكمًا خارجيًا إلى نقدٍ ذاتي داخلي.
وقد سلطت الأبحاث الحديثة في علم الأعصاب الضوء على كيفية معالجة العار في الدماغ. إذ أظهرت فحوصات التصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي أن مناطق الدماغ المسؤولة عن التنظيم العاطفي، مثل قشرة الفص الجبهي واللوزة الدماغية، تنشط عند الشعور بالعار. ويُشير هذا النشاط إلى أن العار ليس مجرد انفعال عاطفي، بل يتضمن أيضًا عمليات معرفية معقدة تتعلق بتقييم الذات.
وقد بينت الأبحاث أن العار يرتبط بعدد من الاضطرابات النفسية، مثل الاكتئاب والقلق وانخفاض تقدير الذات
(جيلبرت ،2000) . كما أن الأفراد الذين يعانون من العار المزمن قد يطوّ رون استجابات غير تكيفية، كالتجنّب أو الانسحاب أو العدوانية، مما يزيد من عزلتهم ويُكرّس دورة مستمرة من العار وكراهية الذات. إن فهم هذه الآليات يُسهم في تطوير استراتيجيات علاجية أكثر فاعلية للتعامل مع مشاعر العار.
من ناحية أخرى، يمكن للعار أن يُؤثر سلبًا في العلاقات الاجتماعية والشخصية. فحين يشعر الأفراد بالعار، تقل رغبتهم في التواصل والانفتاح، مما يؤدي إلى سوء الفهم وتفاقم الصراعات. ووفقًا لـبراون(2006) ، يمكن للعار أن يضُعف التعاطف والتواصل، مما يجعل بناء علاقات صحية أكثر صعوبة.
وفي عصرنا الرقمي الحالي، تفُاقم وسائل التواصل الاجتماعي من مشاعر العار، إذ إن التعرض المستمر لصور مثالية عن حياة الآخرين يعزز المقارنة الاجتماعية ويشُعر الأفراد بالنقص. كما أن التنمر الإلكتروني والتشهير العلني يمكن أن يزيدان من حدة العار ويؤديان إلى آثار نفسية وجسدية خطيرة.
وتختلف الثقافات في نظرتها إلى العار؛ ففي بعض الثقافات، يُعد العار تجربة جماعية تمسّ العائلة أو المجتمع، لا الفرد وحده. فالثقافات الجماعية، كالثقافات العربية، تعُلي من شأن الانسجام الاجتماعي والتوافق الجماعي، ما يجعل انحراف الفرد عن هذه المعايير سببًا لشعو رٍ مضاعف بالعار (ماتسوموتو وجوانغ، 2016).
في المقابل، تميل الثقافات الفردية إلى التركيز على الإنجاز الشخصي والاستقلالية، مما يجعل العار مرتبطًا أكثر بالفشل الفردي أو الشعور بعدم الكفاءة. وقد يكون لهذا إما دور في تعزيز التماسك الاجتماعي أو في زيادة الأعباء النفسية على الفرد. أما في مجال العلاج النفسي، فيعُد التعامل مع العار خطوة محورية نحو الشفاء والنمو الشخصي. إذ يركّز المعالجون على مساعدة الأفراد في التعرف على محفزات العار، وفهم جذوره، وتطوير استراتيجيات تكيف صحية. ويتعلم الأفراد من خلال العلاج تحدي المعتقدات الذاتية السلبية واستبدالها بحوار داخلي أكثر تعاطفًا. وتشمل الأساليب المستخدمة إعادة الهيكلة المعرفية، واليقظة الذهنية، وتدريب التعاطف مع الذات .وقد شددت نيف (2011) على أهمية التعاطف مع الذات كعامل موازن للعار، إذ يسُهم في تخفيف الأحكام الذاتية القاسية وتعزيز التقبل الذاتي.
إضافة إلى ذلك، تعُد تهيئة بيئة علاجية آمنة عنصرًا أساسيًا تمكّن الأفراد من استكشاف مشاعر العار دون خوف من الرفض أو الأحكام. ويتماشى هذا النهج مع مبادئ الضعف والأصالة التي ناقشتها براون(2102) ، حيث ترى أن تقبّل الضعف يمكن أن يُؤدي إلى قدرٍ أكبر من المرونة والتواصل الإنساني الصادق.
ختامًا، يُعد العار شعورًا إنسانيًا عميقاً يمكن أن يؤثر بعمق في النفس والعلاقات. إن فهم جذوره وآلياته وآثاره النفسية يعُد خطوة جوهرية نحو تعزيز الوعي الذاتي وتحقيق الشفاء. ومن خلال مواجهة العار وإدراك أبعاده الثقافية والاجتماعية، يستطيع الأفراد تجاوز آثاره السلبية وبناء علاقة أكثر رحمة وتقبلًّا مع ذواتهم.